recent
أخبار ساخنة

إشكاليات إيداع الأحكام القضائية في المحافظة العقارية وأثرها على الإشهار العقاري

إشكاليات إيداع الأحكام القضائية في المحافظة العقارية وأثرها على الإشهار العقاري تُعد من المواضيع المهمة في المجال القانوني والعقاري، خاصة في ما يتعلق بضمان الشفافية والأمن القانوني للمعاملات العقارية.

مقدمة

يُروى أنه خلال الحرب العالمية الثانية، انزعج أحد قضاة إنجلترا من صوت أزيز الطائرات التي كانت تُجري تدريباتها بالقرب من المحكمة أثناء انعقاد الجلسات. وإزاء هذا الإزعاج الذي اعتُبر ماسًّا بحرمة القضاء، أصدر القاضي حكماً بمنع استخدام المطار خلال جلسات المحكمة. ولما عُرض الحكم على رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل، بحجة تأثيره السلبي على المجهود الحربي، كان رده حاسماً:

 «لا بد من تنفيذ حكم القضاء؛ فإنه أهون أن يُكتب في التاريخ أن إنجلترا قد هُزمت في الحرب، من أن يُقال إنها امتنعت عن تنفيذ حكم قضائي.»

تعكس هذه الواقعة عمق التقدير لمكانة السلطة القضائية في دولة القانون، وتؤكد أن تنفيذ الأحكام القضائية هو عنوان لاحترام العدالة وضمان لحقوق المتقاضين.

وفي السياق الجزائري، ورغم أن الأحكام القضائية تصدر باسم الشعب الجزائري، وتُعد عنواناً للحقيقة، إلا أن العديد من هذه الأحكام، لا سيما تلك المتعلقة بالقسمة العقارية، تواجه عراقيل جدّية عند مرحلة الإيداع والإشهار على مستوى المحافظات العقارية. الأمر الذي يطرح تساؤلات جوهرية:

هل الخلل في الحكم ذاته؟ أم في تقرير الخبرة؟ أم في أداء الموثق؟ أم أن الإشكال يعود إلى الإدارة، ممثلة في المحافظ العقاري، بتأويله المتشدد للنصوص؟

إيداع الأحكام القضائية المحافظة العقارية (أو التحفيظ العقاري) الإشهار العقاري (أو الشهر العقاري) التسجيل العقاري الأحكام القضائية العقارية نظام

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الإشكالات العملية المرتبطة بإيداع الأحكام القضائية الخاصة بالقسمة، وتسليط الضوء على مواطن الخلل بين النص والتطبيق، واقتراح حلول من شأنها تعزيز فعالية الإشهار العقاري وضمان الأمن القانوني للمعاملات العقارية.

أولاً: إشكاليات إيداع أحكام القسمة العقارية

أثبتت الممارسة اليومية أن الموثقين يواجهون صعوبات متعددة عند إيداع الأحكام القضائية القاضية بالقسمة، والتي يُفترض أن تُشهَر لدى مصالح المحافظة العقارية، ومن أبرز هذه الإشكاليات:

1- غياب تقويم المال المشاع في الحكم القضائي

تنص المادة 724 من القانون المدني صراحة على وجوب قيام الخبير، عند تعيينه من قبل المحكمة، بتقويم المال الشائع قبل قسمته، إذ جاء فيها:

 "وتعيّن المحكمة إن رأت وجهاً لذلك خبيراً أو أكثر لتقويم المال الشائع وقسمته حصصاً، إن كان المال يقبل القسمة عيناً دون أن يلحقه نقص كبير في قيمته."

غير أن الأحكام القضائية الصادرة في دعاوى القسمة كثيراً ما تغفل هذا التكليف، فلا يتضمن الحكم ضمن منطوقه أو في مهام الخبير مسألة تحديد القيمة المالية للعقار المشاع، مما يمنع الموثق من تقديم الحكم لإدارة الضرائب لأغراض التسجيل والطابع، باعتبار أن الرسوم تُحتسب على أساس القيمة المالية.

وقد تدخّل المشرّع لتدارك هذا الفراغ بموجب المادة 353 من قانون المالية لسنة 2004، والتي نصّت على إمكانية اللجوء إلى تصريح تقديري عند غياب القيمة في الحكم أو العقد، يُكتتب من طرف المعني، ويُصادق عليه، إلا أن هذا الحل يظل مؤقتاً ولا يحظى دائماً بالقبول الإداري.

2- عدم اعتماد الخبراء على الدفتر العقاري في المناطق الممسوحة

تُعد الوثائق العقارية الرسمية، وعلى رأسها الدفتر العقاري، المصدر الوحيد المعتمد لإثبات الملكية في المناطق الممسوحة وفقاً لما تقتضيه المادة 19 من القانون رقم 90-25 المتعلق بالتوجيه العقاري.

ورغم أهمية هذا الدفتر، إلا أن بعض الخبراء المعيّنين من قبل الجهات القضائية في دعاوى القسمة، لا يستندون إليه في إعداد تقاريرهم، مما يُفقد تلك الخبرات حجّيتها العقارية ويُعرقل عملية الإشهار، خاصةً في الحالات التي تتعارض فيها البيانات الواردة في الخبرة مع البيانات الرسمية في الدفتر العقاري.

وقد دعت الهيئات المهنية والموثقون إلى ضرورة إلزام قضاة الأقسام العقارية بتضمين تكليف الخبير في دعاوى القسمة بمهمتين أساسيتين:

تقويم العقار ككل.

تقويم كل حصة على حدة.

وذلك لتمكين إدارة الضرائب من تحصيل الرسوم المستحقة من كل مالك حسب نصيبه الحقيقي، وبالتالي تسهيل إجراءات الإيداع والإشهار.

إن ما سُجّل من إشكالات في إيداع أحكام القسمة القضائية يُعَد انعكاساً لتداخل الصلاحيات وغموض بعض النصوص القانونية، إلى جانب تفاوت مستوى التنسيق بين القاضي، الخبير، الموثق، والإدارة العقارية. ومن هنا، تقتضي المعالجة القانونية لهذه الوضعية النظر إلى الإشكال من زاويتين:

قانونية تنظيمية: تخص وضوح النصوص والتكامل بين القوانين العقارية والمدنية.

عملية تطبيقية: تتعلق بتقنيات تحرير الأحكام وتفويض المهام، وتكامل الأدوار بين مختلف المتدخلين.

وسيُعالج هذا الموضوع لاحقًا ضمن خطة بحث تفصيلية تسعى إلى استجلاء مواضع الخلل، واقتراح آليات للتصحيح والتطوير.

ثانياً: إشكاليات إضافية في إيداع الأحكام القضائية القاضية بالقسمة العقارية

رغم أن الأحكام القضائية النهائية الصادرة في مادة القسمة تُعد واجبة التنفيذ بمجرد حيازتها لقوة الشيء المقضي فيه، إلا أن الواقع العملي يكشف عن جملة من الإشكالات التقنية والقانونية التي تعترض سبيل الموثقين والمحافظين العقاريين عند مرحلة الإيداع والإشهار، ومن أبرزها:

1. عدم تحيين الوضعية العقارية قبل الفصل في الدعوى

في الكثير من الحالات، يفصل القضاة في دعاوى القسمة بناءً على بيانات عقارية غير محينة، ما يُفضي إلى تناقض محتمل بين مضمون الحكم والواقع العقاري الرسمي.

لذلك، من الضروري أن يحرص السادة القضاة، قبل الفصل في أي دعوى جديدة، على طلب مستخرج الوضعية العقارية المحينة من مصالح المحافظة العقارية المختصة، لاسيما إذا طرأ تغيير على العقار محل القسمة.

2. إغفال الإشارة إلى الأجزاء المشتركة في العقارات المبنية

يتعيّن على الأحكام القضائية الصادرة بشأن قسمة العقارات المبنية أن تتضمن مهمة واضحة للخبير تتمثل في إعداد الجدول الوصفي للتقسيم، الذي يبيّن الحصص الخاصة بكل شريك ويُحدد على وجه الدقة الحقوق المرتبطة بالأجزاء المشتركة.

في حال إغفال هذه المهمة، يُضطر الأطراف إلى اللجوء من جديد إلى المحكمة ذاتها لطلب تعيين نفس الخبير من أجل إنجاز خبرة تكميلية تشمل إعداد الجدول الوصفي وفق ما تقتضيه أحكام التهيئة العمرانية والتنظيم العقاري، باعتبار أن كل ملكية مشتركة يجب أن تُرفق وجوبا بهذا الجدول.

3. غياب رخصة التجزئة في قسمة الأراضي العارية

يُشترط أن تكون الأحكام القضائية المتعلقة بتقسيم الأراضي العارية مستندة إلى رخصة تجزئة مسبقة تُسلّم من قبل المصالح الإدارية المختصة، وذلك لضمان مطابقتها لأحكام التهيئة والتعمير، وتفادي تقسيمات عشوائية مخالفة لقواعد العمران.

غير أن العمل القضائي كثيراً ما يبت في دعاوى القسمة دون توفر هذه الرخصة، رغم أن رخصة التجزئة ليست شرطاً لرفع الدعوى. ورغم ذلك، يبقى من اللازم على القضاة التنسيق مع المصالح التقنية للبلدية المختصة، خاصة عند تكليف الخبير، لضمان احترام مخطط التعمير المحلي.

وقد أكدت المديرية العامة للأملاك الوطنية، في مذكرتها المؤرخة في 12 فبراير 1995 تحت رقم 00689، أن الأحكام النهائية لا يمكن للمحافظ العقاري أن يمتنع عن إشهارها بحجة غياب رخصة التجزئة، لأنها لا تُعد شرطاً من شروط الشهر.

4. قسمة الأراضي الفلاحية

نظراً للطابع الخاص للأراضي الفلاحية، يُمنع تجزئتها بشكل يُخالف الوجهة الأصلية للعقار، منعًا للتحاصيص الفوضوية وتحويل الاستعمال الفلاحي إلى حضري.

وقد حدّد المرسوم التنفيذي رقم 97-484 المؤرخ في 20 ديسمبر 1997 المساحة المرجعية الدنيا لكل حصة حسب طبيعة النشاط الفلاحي. ولذلك، يجب على القضاة، عند تعيين الخبراء، إلزامهم باحترام أحكام هذا المرسوم تفادياً لأي مساس بالوظيفة الاقتصادية للعقار الفلاحي.

وقد أكدت التعليمة رقم 4319 الصادرة بتاريخ 18 مارس 2009 عن المديرية العامة للأملاك الوطنية على ضرورة التقيد الصارم بأحكام هذا المرسوم عند إعداد أحكام القسمة الفلاحية.

5. نقص البيانات التقنية المتعلقة بالعقار محل الحكم

تقتضي المادة 66 من المرسوم رقم 76-03 المؤرخ في 25 مارس 1976 أن كل عقد أو قرار قضائي يُودع لدى المحافظة العقارية يجب أن يتضمن بيانات دقيقة، من بينها:

نوع العقار،

موقعه،

رقم مخطط المسح،

طبيعة القسم،

محتوى العقار حسب وثائق المسح.

ويُشترط، في حالة القسمة الناتجة عن تفتيت عقار واحد إلى عدة وحدات، أن يُبيّن القرار الوضعية السابقة للعقار، والحصص الناتجة عن القسمة، باستثناء حالات التجزئة الخاضعة لقواعد العمران.

6. اشتراط وثيقة القياس في القسمة ذات الطابع العيني

تُعد وثيقة القياس وثيقة أساسية لإتمام عملية الإشهار في المناطق الخاضعة لنظام الشهر العيني، خاصةً في حالات تغيير حدود العقار.

وقد نصّت المادتان 66 و74 من المرسوم 76-63 على أن تعيين الوحدات العقارية في العقود أو الأحكام القضائية يتم طبقا لوثيقة القياس المُعدة من قبل مهندس مسّاح معتمد.

هذه الوثيقة تُمكّن من:

إلغاء الحصة الأصلية،

خلق وتحديد الحصص الجديدة،

حجز الأرقام الخاصة بمجموعات الملكية الناتجة.

ويمتنع المحافظ العقاري عن الإشهار إذا لم تُرفق وثيقة القياس بالحكم، أو في حالة عدم مطابقتها لنتائج المسح العقاري، وهو ما يُعزى غالباً إلى تقارير خبرة لم تُحدّث مع المعطيات المساحية الرسمية.

7. رفض إشهار الأحكام القضائية المتقادمة

يُلاحظ في بعض الحالات أن المحافظين العقاريين يرفضون إشهار الأحكام القضائية بدعوى تقادمها بمرور 15 سنة. ورغم أن هذا الرفض لا يستند إلى نص قانوني صريح يمنع شهر الأحكام القديمة، إلا أنه يُمارس كسلطة تقديرية بدعوى فقدان أثر الحكم أو تغير المعطيات العقارية.

غير أن الاتجاه الراجح يرى أن قوة الشيء المقضي فيه لا تسقط بالتقادم، ولا يجوز ربط تنفيذ الحكم العقاري بآجال زمنية طالما لم يتم الطعن فيه أو نسخه بقرار جديد، ما لم يكن هناك نص صريح أو مانع قانوني.

إيداع الأحكام القضائية  المحافظة العقارية (أو التحفيظ العقاري)  الإشهار العقاري (أو الشهر العقاري)  التسجيل العقاري  الأحكام القضائية العقارية  نظام السجل العقاري  الحجية القانونية للسجل العقاري  الآثار القانونية للإيداع العقاري

ثالثاً: إشكالات إيداع الأحكام القضائية المثبتة للحقوق العينية العقارية

لا تخلو الممارسة العملية من إشكالات متعددة تتعلق بإيداع وإشهار بعض الأحكام القضائية، سواءً تعلق الأمر بالأحكام المثبتة للبيوع العقارية غير الرسمية، أو تلك القاضية برسو المزاد، أو حتى الأحكام المقررة للحقوق غير القابلة للإشهار. ويمكن إجمال أبرز هذه الإشكالات كما يلي:

1. تقادم الأحكام القضائية ورفض المحافظ العقاري إشهارها

يرتكب بعض المحافظين العقاريين خطأً قانونياً حين يرفضون إشهار الأحكام القضائية بذريعة تقادمها بمرور أكثر من 15 سنة، وهي المدة المقررة في قانون الإجراءات المدنية والإدارية لسقوط الحق في التنفيذ.

غير أن هذا الفهم يُعد خاطئاً وغير مؤسس قانوناً، لأن تقادم الأحكام ليس من النظام العام، ولا يُمكن التمسك به إلا بموجب حكم قضائي صريح. وبالتالي، لا يجوز للمحافظ العقاري رفض الإشهار إلا إذا وُجد حكم قضائي مستقل يقضي بالتقادم.

فالحكم القضائي النهائي يظل نافذاً وملزماً ما لم يُقضَ ببطلانه أو سقوطه، وتبقى له الحجية القانونية التي تسمو على أي اعتبارات إدارية أو تنظيمية.

2. إشكالية إيداع الأحكام المثبتة لشرعية البيوع العقارية العرفية

تُبرم في الواقع الكثير من البيوع العقارية على الشكل العرفي، في مخالفة صريحة لأحكام المادة 324 مكرر من القانون المدني، أو على التصاميم دون ترخيص مسبق، في تجاوز للقانون 04/11 المنظم لنشاط الترقية العقارية.

غير أن القضاء، مراعاة للوقائع والنية التعاقدية بين الطرفين، قد يصدر أحكاماً تثبت البيع العرفي، وتُلزم البائع بإتمام إجراءات العقد الرسمي.

وفي حالة امتناع البائع عن التوقيع أمام الموثق، لا يُشترط لجوء المشتري مرة ثانية إلى القضاء، لأن الحكم ذاته يحل محل العقد الرسمي بحكم قوته الملزمة.

وقد كرّست الغرفة العقارية بالمحكمة العليا هذا المبدأ، من خلال قرارها الصادر بتاريخ: 16/07/2017 تحت رقم 892982 (غير منشور)، حيث أكدت:

 "أن الحكم القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به، يأخذ حكم العقد الرسمي، ويستوجب شهره بالمحافظة العقارية، ويلزم البائع وخلفه العام بنقل الملكية، ولا يحق له الاعتراض على إجراء الشهر."

وبالتالي، يتعين على الموثق، حال تقديم حكم قضائي من هذا النوع، القيام مباشرة بإيداعه وشهره لدى المحافظة العقارية دون الرجوع إلى القضاء.

3. مدى جواز إشهار أحكام رسو المزاد العقاري من طرف الموثق

يثير واقع الممارسة المهنية إشكالاً بخصوص صاحب الصفة في إشهار أحكام رسو المزاد، خاصة بعد تعديل المادة 762/2 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، التي نصّت على:

 "يتعين على المحضر القضائي قيد حكم رسو المزاد بالمحافظة العقارية من أجل إشهاره خلال أجل شهرين من تاريخ صدوره."

بينما تُحدد المادة 90 من المرسوم رقم 76-63 الأشخاص المخول لهم قانوناً بإجراء الإشهار، ومنهم:

الموثقون،

كتاب الضبط،

السلطات الإدارية،

وذلك فيما يتعلق بالعقود أو الأحكام الصادرة بمساعدتهم أو عنهم.

ورغم أن المادة 762 جاءت بحكم خاص يُخالف مقتضيات المرسوم التنظيمي، إلا أن الصيغة الخاصة لهذه المادة تُخول للمحضر القضائي فقط دون غيره صلاحية إشهار حكم رسو المزاد. وبالتالي، فإن أي إشهار يقوم به الموثق يُعد غير مشروع، ويحق للمحافظ العقاري رفضه

4. إشكالية مشروعية إيداع الأحكام القضائية المقررة للحقوق

ليست جميع الأحكام القضائية قابلة للإشهار، إذ يُشترط فيها أن تُقرر أو تُنشئ حقاً عينياً عقارياً. أما الأحكام التي تقتصر على تقرير حماية قانونية أو طرد دون أن تُنشئ أو تنقل ملكية، فلا يجوز إشهارها.

وقد كرس مجلس الدولة هذا المبدأ في قراره الصادر بتاريخ 25/11/2010 تحت رقم 673055، المنشور بمجلة المجلس، العدد 10، الصفحة 138-139، حيث قرر:

 "إن الحكم القاضي بالطرد لا يُعد سنداً ناقلاً للملكية، ولا يجوز إشهاره لدى المحافظة العقارية، وإن قيام الموثق بإيداعه يُعد تصرفاً غير مشروعاً، مشوباً بعيب عدم القانونية ومعرضاً للإبطال."

وبذلك، فإن العقود التوثيقية التي ترفق بأحكام غير منشئة لحقوق عينية وتودع بغرض الإشهار تكون باطلة قانوناً، وينبغي على المحافظ العقاري رفض شهرها صراحة.

إشكاليات إيداع الأحكام القضائية الخاضعة للإشهار العقاري

دراسة تحليلية في ضوء الاجتهاد القضائي والتشريع العقاري الجزائري

1. الأحكام الناطقة بعدم نفاذ التصرف:

يرفض بعض المحافظين العقاريين إيداع الأحكام القضائية الصادرة في إطار الدعوى البوليصية (عدم نفاذ التصرف) بحجة أنها لا تقرر حقًا عينيًا عقاريًا جديدًا. غير أن هذا الموقف غير سديد قانونًا، باعتبار أن هذه الأحكام تُعدّ بمثابة عبء قانوني على العقار، ينبغي قيده في السجل العقاري ضمن خانة الأعباء. ويترتب على ذلك إمكانية توقيع الحجز على العقار محل التصرف، ثم المضي قدمًا في إجراءات البيع بالمزاد العلني وفقًا للقانون.

2. الأحكام القاضية بإلغاء الترقيم النهائي:

تُسجَّل صعوبات عملية في إيداع الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الإداري، وخاصة تلك التي تقضي بإلغاء الترقيم النهائي وإعادة تسجيل العقار باسم المالك الفعلي. ويرى البعض أن هذا الإجراء يخرج عن اختصاص الموثق ويدخل ضمن مهام المحضر القضائي، إلا أن هذا التصور غير دقيق؛ لأن هذه الأحكام لا تتعلق بالتنفيذ وإنما تؤسس لحق عيني عقاري جديد، ما يجعلها من صميم اختصاص الموثق باعتباره ضابطًا عموميًا مكلفًا بتحرير العقود وتوثيقها وإشهارها.

3. إشكالية التقادم المكسب وإشهار الأحكام القضائية المرتبطة به:

يُعتبر التقادم المكسب أحد أسباب اكتساب الملكية العقارية بموجب المواد 827 وما يليها من القانون المدني. وقد استقر الاجتهاد القضائي للمحكمة العليا على أن التقادم المكسب يمكن أن ينصب حتى على عقارات ممسوحة ومشهرة بسند رسمي، بما في ذلك تلك المسجلة بدفاتر عقارية.

ورغم ذلك، تُرفض أحيانًا الأحكام القضائية التي تكرّس الملكية على أساس التقادم المكسب من طرف الموثقين، بحجة أنها مجرد أحكام سلبية (ترفض دعوى أصلية أو تقبل دفعًا شكليًا) ولا تحتوي على عنصر إلزامي. غير أن هذا الطرح يتجاهل أن عنصر الإلزام قد يُستشف من خلال حيثيات الحكم، والتكييف القانوني للخبرة والعقود المرفقة بالملف القضائي، بما يسمح باستخلاص وجود ملكية مكتسبة بالتقادم المكسب تستوجب الإشهار.

4. قابلية إشهار الأحكام: بين الإيداع والشهر والطعن القضائي:

من المهم التمييز بين عقد الإيداع وإجراء الإشهار. فالإيداع بحد ذاته لا يُنشئ الحق بل يوثّق حيازته ويؤسس لحجيته العلنية، بينما الإشهار هو الذي يرتب الأثر القانوني الكامل. ومن هنا فإن الطعن بالبطلان لا ينبغي أن يُوجَّه ضد عقد الإيداع المحرر من طرف الموثق، بل ضد الحكم القضائي ذاته إذا لم يكن نهائيًا، أو ضد قرار المحافظ العقاري في حال وقوع تجاوز أثناء عملية الإشهار.

وفي السياق نفسه، يجب أن تقتصر رقابة المحافظ العقاري على مراقبة صحة الشكليات، طبقًا للمواد 100، 101 و105 من المرسوم 76/63 المتعلق بالسجل العقاري، دون تجاوز ذلك إلى مراقبة موضوع الحكم القضائي أو إعادة تقدير الوقائع.

5. صفة الموثق في الطعن ضد قرارات المحافظ العقاري:

تباينت مواقف مجلس الدولة بخصوص صفة الموثق في رفع دعوى إلغاء قرار رفض الإيداع. ففي قرار صادر بتاريخ 19 نوفمبر 2005 (غير منشور)، اعتُرف للموثق بالصفة في الطعن ضد قرار الرفض، بينما ذهبت الغرفة الرابعة في قرار لاحق (20 سبتمبر 2012، غير منشور) إلى اشتراط إثبات المصلحة الشخصية المباشرة للموثق، ما أثار إشكالاً عمليًا في ضوء صفته كضابط عمومي يعمل لحساب أطراف العلاقة التعاقدية.

6. استحالة إلغاء إجراء الإيداع بمبادرة البائع:

أقرّ الاجتهاد القضائي بعدم جواز قيام البائع بالطعن في إجراء إيداع الحكم القضائي بالمحافظة العقارية، على اعتبار أن ذلك يُعدّ إخلالًا بالتزامه التعاقدي بنقل الملكية، كما أن القرار القضائي الذي يصحح عقدًا عرفيًا يُضفي عليه الصيغة الرسمية، مما يُنتج جميع الآثار القانونية المترتبة على العقود المشهرة.

وقد كرّست المحكمة العليا هذا الاتجاه في عدة قرارات، من بينها القرار رقم 0982892 المؤرخ في 16 يوليو 2015 (غير منشور)، والذي اعتبر أن الحكم الحائز لقوة الأمر المقضي به يأخذ حكم العقد الرسمي ويستوجب شهره، ولا يمكن للبائع أو خلفه الطعن في هذا الإجراء.

صفة الموثق ومصلحته في الطعن بإلغاء قرارات رفض الإيداع أو الإجراء من طرف المحافظ العقاري

يرى جانب من الفقه، ونؤيده في ذلك، أن للموثق الصفة والمصلحة القانونية لرفع دعوى إلغاء قرار رفض الإيداع أو رفض الإجراء الصادر عن المحافظ العقاري أمام القضاء الإداري، وذلك استنادًا إلى الأسس التالية:

1. النصوص القانونية المنظمة لاختصاص الموثق:

جاء في المادة 90 من المرسوم رقم 76/63 المؤرخ في 25 مارس 1976 المتعلق بتأسيس السجل العقاري، ما يلي:

 "ينبغي على الموثقين وكتاب الضبط والسلطات الإدارية أن يعملوا على إشهار جميع العقود أو القرارات الخاضعة للإشهار والمحررة من قبلهم أو بمساعدتهم وذلك ضمن الآجال المحددة."

كما نصّت المادة 10 من القانون رقم 06/02 المؤرخ في 20 فبراير 2006 والمتعلق بتنظيم مهنة الموثق على أن:

 "يتولى الموثق تحرير العقود الرسمية التي تقتضيها طبيعة التصرفات، ويكلف بالسهر على شهرها وفقًا للتشريع المعمول به."

ويُستخلص من هذين النصين أن الموثق لا يقوم بالشهر بصفته وكيلاً عن المتعاقدين فحسب، وإنما يستمد صفته مباشرة من القانون، باعتباره ضابطًا عموميًا مكلفًا بمهمة توثيق العقود وشهرها في السجل العقاري، وذلك بصفة مستقلة عن إرادة الأطراف.

2. استقلال التزام الموثق عن التزامات الأطراف:

تنقضي التزامات المتعاقدين بمجرد إمضاء العقد التوثيقي، أما إجراءات التسجيل والشهر فهي من صميم اختصاص الموثق وتندرج ضمن مسؤوليته المهنية. وقد أيدت المحكمة العليا هذا التوجه في قرارها الصادر بتاريخ 21 سبتمبر 2016 تحت رقم 1004470، حيث أكدت أن هذه الالتزامات تقع على عاتق الموثق، ولا يجوز للأطراف الحلول محله في استكمالها.

3. مسؤولية الموثق المدنية والجزائية عن الإشهار:

يخاطَب الموثق وحده بقرار رفض الإيداع، وقد يترتب على ذلك مسؤوليته الشخصية، سواء المدنية أو حتى المالية، بموجب أحكام المادة 353 مكرر 11 من قانون التسجيل، التي تفرض عليه غرامات مالية في حالة التقاعس عن الإيداع أو الإشهار ضمن الآجال القانونية.

وهو ما أكدته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 2006 تحت رقم 375903 (مجلة المحكمة العليا، العدد 2، سنة 2008، ص. 243)، حيث حمّلت الموثق المسؤولية المدنية بسبب عدم إتمام إجراء الإشهار.

4. الطبيعة التقنية لمضمون قرارات الرفض:

يرتكز المحافظ العقاري، في الغالب، عند إصدار قرارات الرفض، على مقتضيات المواد 101، 104 و105 من المرسوم رقم 76/63، التي تتعلق بمراقبة المشروعية، والتأكد من مطابقة البيانات، وصحة التقييد. وهي مسائل فنية وتقنية صرفة لا يمكن للأطراف التدخل فيها، ما يجعل الموثق الطرف الوحيد المؤهل لتدارك الخلل أو الدفع بعدم مشروعية القرار.

5. توسّع مفهوم "الصفة والمصلحة" في دعوى الإلغاء الإدارية:

إن الطعن بالإلغاء أمام القضاء الإداري يهدف إلى حماية المشروعية وليس مجرد حماية المصالح الشخصية، وهو ما يفرض تبني مفهوم مرن وواسع للصفة والمصلحة. وعليه، فإن صفة الموثق في رفع دعوى الإلغاء لا ترتبط بمصلحته الذاتية فحسب، وإنما أيضًا باعتباره فاعلًا قانونيًا يسهم في ضمان نفاذ التصرفات العقارية وفق ما يقتضيه مبدأ المشروعية في دولة القانون.

6. الخلاصة:

يتضح مما سبق أن للموثق صفة ومصلحة قانونية مباشرة في رفع دعوى قضائية أمام الجهات القضائية الإدارية للطعن في قرار رفض الإيداع أو الإجراء الصادر عن المحافظ العقاري، وذلك دفاعًا عن التزامه القانوني والمهنة التي يزاولها، ولتفادي تحميله تبعات قانونية قد تنشأ عن تقاعسه في أداء هذا الواجب.



google-playkhamsatmostaqltradent